الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
إن الله- سبحانه- يخاطب القلوب التي خلقها، فهو يعلم أحوالها، ويعرف مداخلها، ويطلع على خوافيها.. وهو يعلم أن نقاء العقيدة، وخلوص القلب واستقرار حقيقة الإيمان استقراراً تنبثق منه آثاره ونتائجه في واقع الحياة، من بذل وتضحية وتقدمه خالصة لله. أن هذا أمر يكلف الطاقة البشرية كثيراً؛ ويحتاج منها إلى جهد ومجاهدة طويلة. ومن ثم يحشد لها هذه الإيقاعات وهذه المؤثرات؛ ويكشف لها عن الحقائق الكونية لتراها وتتأثر بها، وتزن كل شيء بميزانها الكبير الدقيق. ويعالجها المرة بعد المرة، والخطوة بعد الخطوة؛ولا يكلها إلى هتاف واحد، أو بيان واحد، أو مؤثر واحد يوقع على أوتارها ثم يغيب.. ومنهج القرآن الإلهي في علاج القلوب جدير بأن يقف الدعاة إلى الله أمامه طويلاً؛ ليتدبروه ويحاولوا أن يقلدوه!إن الإيقاعات الأولى في مطلع السورة من القوة والتوالي والعمق والتاثير، بحيث تزلزل القلوب الجامدة، وتلين القلوب القاسية وتدعها مرهفة الحساسية. ولكن القرآن لا يكل قلوب المخاطبين إلى هذه اللمسات الأولى، وهو يدعوهم إلى الإيمان والبذل في الفقرة التالية. {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}..والمخاطبون هنا هم مسلمون، ولكنهم يُدعون إلى الإيمان بالله ورسوله. فهي إذن حقيقة الإيمان يدعون لتحقيقها في قلوبهم بمعناها. وهي لفتة دقيقة. وهم يُدعون إلى الإنفاق، ومع الدعوة لمسة موحية. فهم لا ينفقون من عند أنفسهم. إنما ينفقون مما استخلفهم الله فيه من ملكه. وهو الذي {له ملك السماوات والأرض}.. فهو الذي استخلف بني آدم جملة في شيء من ملكه. وهو {يحي ويميت}.. فهو الذي استخلف جيلا ًمنهم بعد جيل.وهكذا ترتبط هذه الإشارة بما سبق من الحقائق الكلية في مطلع السورة. ثم تقوم هي بدورها في استثارة الخجل والحياء من الله، وهو المالك الذي استخلفهم وأعطاهم، فماذا هم قائلون حين يدعوهم إلى إنفاق شيء مما استخلفهم فيه ومما أعطاهم؟! وفي نهنهة النفوس عن الشح، والله هو المعطي ولا نفاد لما عنده فماذا يمسكهم عن البذل والعطاء، وما في أيديهم رهن بعطاء الله؟!ولكنه لا يكلهم إلى هذا التذكير وما يثيره من خجل وحياء، ومن سماحة ورجاء. إنما يخاطبهم بمؤثر جديد. يخجلهم من كرم الله ويطمعهم في فضله:{فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير}..فكيف يتخلف متخلف عن الإيمان والبذل في مواجهة هذا الكرم والفضل؟غير أن القرآن لا يكلهم إلى هذه اللمسات الأولى.إنما يلح على قلوبهم بموحيات الإيمان وموجباته من واقع حياتهم وملابساتها:{وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم}..فما الذي يعوقهم عن الإيمان- حق الإيمان- وفيهم الرسول يدعوهم إلى الإيمان. وقد بايعوه عليه وأعطوه ميثاقهم؟ وما الذي يعوقهم عن الإيمان بالله وهو ينزل على عبده آيات بينات تخرجهم من ظلمات الضلال والشك والحيرة إلى نور الهدى واليقين والطمأنينة؟ وفي هذا وذاك من دلائل الرأفة والرحمة بهم ما فيه.إن نعمة وجود الرسول بين القوم، يدعوهم بلغة السماء، ويخاطبهم بكلام الله، ويصل بينهم وبين الله في ذوات نفوسهم وخواص شؤونهم.. نعمة فوق التصور حين نتملاها نحن الآن من بعيد.. فهذه الفترة- فترة الوحي وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم فترة عجيبة حقاً.. إن الله- جل جلاله- يخاطب هذا البشر من صنع يديه، على لسان عبده صلى الله عليه وسلم وفي رحمة علوية ندية يقول لهم: خذوا هذا ودعوا ذاك ها هو ذا طريقي فاسلكوه لقد تعثرت خطاكم فهاكم حبلي! لقد أخطأتم وأثمتم فتوبوا وها هو ذا بابي مفتوح. تعالوا ولا تشردوا بعيداً، ولا تقنطوا من رحمتي التي وسعت كل شيء.. وأنت يا فلان- بذاتك وشخصك- قلت كذا. وهو خطأ. ونويت كذا. وهو إثم. وفعلت كذا وهي خطيئة.. فتعال هنا قدامي وتطهر وتب وعد إلى حماي.. وأنت يا فلان- بذاتك وشخصك- أمرك الذي يعضلك هذا حله. وسؤالك الذي يشغلك هذا جوابه. وعملك الذي عملت هذا وزنه!إنه الله. هو الذي يقول. يقول لهؤلاء المخاليق. وهم يعيشون معه. يحسون أنه معهم. حقيقة وواقعاً. أنه يستمع إلى شكواهم في جنح الليل ويستجيب لها. وأنه يرعاهم في كل خطوة ويعنى بها..ألا إنه لأمر فوق ما يطيق الذي لم يعش هذه الفترة أن يتصور. ولكن هؤلاء المخاطبين بهذه الآيات عاشوها فعلاً.. ثم احتاجوا إلى مثل هذا العلاج ومثل هذه اللمسات، ومثل هذا التذكير.. وهو فضل من الله ورحمة فوق فضله ذاك ورحمته. يدركهما ويشعر بهما من لم تقدر له الحياة في هذه الفترة العجيبة:ورد في صحيح البخاري أن «رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه أي المؤمنين أعجب عليكم؟ قالوا الملائكة. قال» وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ «قالوا: فالانبياء. قال» وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ «قالوا فنحن. قال وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها».وصدق رسول الله. إنه لأمر متفاوت. وإن موحيات الإيمان وموجباته لديهم لشيء هائل، هائل، عجيب عجيب. وهو يعجب: ما لهم لا يؤمنون؟ ثم يطلب إليهم تحقيق الإيمان في نفوسهم إن كانوا مؤمنين!ثم ينتقل بهم من موحيات الإيمان وموجباته إلى موحيات الإنفاق وموجباته في توكيد وتكرير:{وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض}..وفي هذه الإشارة عودة إلى حقيقة: {له ملك السماوات والأرض والى الله ترجع الأمور}.. فميراث السماوات والأرض ملكه وراجع إليه، وما استخلفوا فيه إذن سيؤول اليه في الميراث! فما لهم لا ينفقون في سبيله حين يدعوهم الى الإنفاق. وهو استخلفهم فيه كما قال لهم هناك. وكله عائد إليه كما يقول لهم هنا؟ وما الذي يبقى من دواعي الشح وهواتف البخل أمام هذه الحقائق في هذا الخطاب؟ولقد بذلت الحفنة المصطفاة من السابقين، من المهاجرين والأنصار، ما وسعها من النفس والمال، في ساعة العسرة وفترة الشدة- قبل الفتح- فتح مكة أو فتح الحديبية وكلاهما اعتز به الإسلام أيام أن كان الإسلام غريباً محاصراً من كل جانب، مطارداً من كل عدو، قليل الأنصار والأعوان. وكان هذا البذل خالصاً لا تشوبه شائبة من طمع في عوض من الأرض، ولا من رياء أمام كثرة غالبة من أهل الإسلام. كان بذلاً منبثقاً عن خيرة اختاروها عند الله؛ وعن حمية لهذه العقيدة التي اعتنقوها وآثروها على كل شيء وعلى أرواحهم وأموالهم جميعاً.. ولكن ما بذلوه- من ناحية الكم- كان قليلاً بالقياس إلى ما أصبح الذين جاءوا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه. فكان بعض هؤلاء يقف ببذله عند القدر الذي يعرف ويسمع أن بعض السابقين بذلوه! هنا نزل القرآن ليزن بميزان الحق بذل هؤلاء وبذل أولئك، وليقرر أن الكم ليس هو الذي يرجح في الميزان؛ ولكنه الباعث وما يمثله من حقيقة الإيمان:{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}..إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء. غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة، والأنصار كثرة، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال. ذلك متعلق مباشرة بالله، متجرد تجرداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده، بعيد عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب. لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته. وهذا له على الخير أنصار حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد الأولين.قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا زهير، حدثنا حميد الطويل، عن أنس، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها! فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد-أو مثل الجبال- ذهبا ما بلغتم أعمالهم».وفي الصحيح: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه».وبعد أن قرر القيم الحقيقية في ميزان الله لهؤلاء ولهؤلاء عاد فقرر أن للجميع الحسنى:{وكلاً وعد الله الحسنى}..فقد أحسنوا جميعاً، على تفاوت ما بينهم في الدرجات.ومرد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم، وما وراء أعمالهم من عزائمهم ونواياهم. وخبرته تعالى بحقيقة ما يعملون:{والله بما تعملون خبير}..وهي لمسة موقظة للقلوب، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة، وهي التي تناط بها القيم، وترجح بها الموازين..ثم مرحلة أخرى في استجاشة القلوب للإيمان والبذل، ومؤثرات أخرى وراء تلك المؤثرات:{من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأمانيّ حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير}..إنه هتاف موح مؤثر آسر. وهو يقول للعباد الفقراء المحاويج: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً}.. ومجرد تصور المسلم أنه هو الفقير الضئيل يقرض ربه، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيراناً! إن الناس ليتسابقون عادة الى إقراض الثري الملئ منهم-وهم كلهم فقراء- لأن السداد مضمون. ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري المليء! فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد؟! ولا يكلهم- سبحانه- إلى هذا الشعور وحده، ولكن يعدهم على القرض الحسن، الخالص له، المجرد من كل تلفت إلى سواه. يعدهم عليه الضعف في المقدار، والأجر الكريم بعد ذلك من عند الله: {فيضاعفه له وله أجر كريم}.ثم يعرض لهم صفحة وضيئة من ذلك الأجر الكريم، في مشهد من مشاهد اليوم الذي يكون فيه ذلك الأجر الكريم.والمشهد هنا بإجماله وتفصيله جديد- بين المشاهد القرآنية- وهو من المشاهد التي يحييها الحوار بعد أن ترسم صورتها المتحركة رسماً قوياً.فنحن الذين نقرأ القرآن اللحظة نشهد مشهداً عجيباً. هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم. ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعاً لطيفاً هادئاً. ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم. فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت وأشعت نوراً يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها.. إنه النور الذي أخرجها الله اليه وبه من الظلمات. والذي أشرق في أرواحها فغلب على طينتها. أم لعله النور الذي خلق الله منه هذا الكون وما فيه ومن فيه، ظهر بحقيقته في هذه المجموعة التي حققت في ذواتها حقيقتها! ثم ها نحن أولاء نسمع ما يوجه إلى المؤمنين والمؤمنات من تكريم وتبشير {بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}..ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف.. إن هناك المنافقين والمنافقات، في حيرة وضلال، وفي مهانة وإهمال. وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم}.. فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف. ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام؟ إن صوتاً مجهلاً يناديهم: {قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}.. ويبدو أنه صوت للتهكم، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام: ارجعوا وراءكم إلى الدنيا. إلى ما كنتم تعملون. ارجعوا فالنور يلتمس من هناك. من العمل في الدنيا. ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور!وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات. فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}.. ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت. فها هم أولاء المنافقون ينادون المؤمنين {ألم نكن معكم}.. فما بالنا نفترق عنكم؟ ألم نكن معكم في الدنيا نعيش في صعيد واحد؟ وقد بعثنا معكم هنا في صعيد واحد؟ {قالوا بلى} كان الأمر كذلك. {ولكنكم فتنتم أنفسكم}.. فصرفتموها عن الهدى. {وتربصتم}.. فلم تعزموا ولم تختاروا الخيرة الحاسمة. {وارتبتم}.. فلم يكن لكم من اليقين ما تعزمون به العزمة الأخيرة. {وغرتكم الأمانيّ}. الباطلة في أن تنجوا وتربحوا بالذبذبة وإمساك العصا من طرفيها! {حتى جاء أمر الله}.. وانتهى الأمر. {وغركم بالله الغرور}.. وهو الشيطان الذي كان يطمعكم ويمنيكم.ثم يستطرد المؤمنون في التذكير والتقرير، كأنما هم أصحاب الموقف المحكومون فيه:{فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} أم لعلها كلمة الملأ الأعلى، أو نطق الله الكريم.
|